جاء ذلك عشية تتويج الدكتور رشدي راشد بجائزة الشيخ زايد للكتاب عن كتابه "الزوايا والمقدار" الصادر باللغتين الفرنسية والعربية، ومن منشورات دار دي غرويتير برلين.

وأشار الدكتور راشد إلى أن هذا الكتاب جاء تتويجاً لمسيرة بحث علميّ على امتداد ثلاثة عقود خلص فيه إلى حقيقة فكريّة مفادها أنّ العرب في عصورهم الزاهرة، أسهموا إسهاماً حقيقيّاً في هذا الحضارة الإنسانية، وبخاصة في مجالات الرياضيات والعلوم، لما يؤكد أن الحضارة التي نعيشها اليوم هي إرث مشترك.

ويعيد الكتاب النظر في تاريخ الرياضيات والفلسفة ويدرس الزوايا والمقدار، وبخاصة في مسألة الزاوية المماسّة وعلاقة بالرياضيّات بالفلسفة، إذ عندما لا يجد الرياضيّ جواباً على مسألة ما فإنه سيبحث لها عن حلول في الفلسفة، إذ اعتمد الدكتور راشد على عدد كبير من المخطوطات التي لم يتمّ نشرها من قبل، والمثبّتة في أصولها العربيّة، ومترجمة إلى اللّغة الفرنسيّة، والتي كانت مصادر للرياضيّين الأوربيّين في القرنين السادس عشر والسابع عشر للميلاد.

"الزوايا والمقدار"

وأشار الدكتور راشد إلى أن كتاب "الزوايا والمقدار" جاء نتيجة لأعمال كثيرة تمت في السابق، والتي ركزت على التأسيس العلمي في ميادين الرياضيات والعلوم بشكل عام وفي فترة نهضة العلوم العربية بشكل خاص. ويضع الكتاب في مفاده مجموعة من البراهين والأدلة التي تفيد بأنه لو تم حذف مرحلة العلوم العربية ومساهماتها من مراحل تاريخ العلوم قبل القرنين السادس عشر والسابع عشر للميلاد، فإن المؤرخين سيواجهون تحدياً في فهم التسلسل التاريخي لتطور البحوث الأساسية ومراحل تطبيقها، بدءاً من فترة العلوم اليونانية ووصولاً إلى العلوم التي وضعت في القرنين السابع عشر والثامن عشر، إذ ستظهر فجوة تتسبب بإرهاق لمؤرخين، الذين سيحاولون سد هذه الفجوة إما بربط الفترة القديمة بالفترة الحديثة أو العكس، وهاتان الخطوتان خاطئتان.

من هنا جاء هذا الكتاب ليكشف ويحقق في هذه الفجوة، من خلال الوصول إلى المخطوطات والبراهين التي تبين مساهمة العلوم العربية في ربط الفترتين "القديمة بالجديدة" وما حققه هذا الكتاب في هذه النقطة هو التالي،  كانت هناك واحدة من المشكلات الأساسية المتمثلة في التساؤل الرياضي حول "هل الزاوية هي مقدار كالمقادير الأخرى مثل الطول والعرض أم أنها شيء آخر؟"، كما أن هناك ما يعرف بزاوية التماس وهي الزاوية التي تتكون من دائرة ومماس الدائرة، وهناك نظرية حول هذا الموضوع من العصر اليوناني، إلا أن هذه النظرية لا يمكن الاعتماد عليها، إذ لا يوجد لها حل، إلا في حالة واحدة أذا ما قمنا بتغيير مفهوم المقدار.

ولفت الدكتور راشد إلى أن هذه المناقشة استمرت منذ القرن الرابع قبل الميلاد، وحتى القرن العشرين، في كل رياضيات العالم، ولم يتم حلها إلا في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فالمؤرخون يكتبون بعضاً من التاريخ، فيقفزون من الفترة اليونانية إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر للميلاد، وهنا كانت الحاجة لإعادة كتابة التاريخ. ويقول: "قمت باكتشاف العديد من النصوص، وتحريرها وترجمتها لبيان أن ما جاء في القرن الخامس عشر والسابع عشر، متوفر باللغة العربية وبشكل أفضل"، مضيفاً "من هنا برزت مسألة ثانية مفادها، ما دور العلاقة بين الفلسفة والرياضيات في مسائل ليس لها حل رياضي مباشر، وهنا تتدخل الفلسفة لحل هذه المسألة بشكل رياضي، ومعالجتها".

وأوضح إلى أنّ أحد أبرز أهدافه العلمية لعقود هو التبيان بأن الفلسفة الإسلامية لا تنحصر في نظريات الوجود والنفس، ولكن هناك فلسفة للرياضيات والعلوم بما لا يدعو مجالاً للشك، لأن هذا الكتاب يتضمن نصوصاً لفلاسفة ورياضيين في الموضوع ذاته، باعتبارها جزءاً من الفلسفة الإسلامية التي لم تبين ولم يتم تأريخها".

ثلاثة عقود

في حديثه عن بدايات هذا العمل قال "لقد بدأت العمل على أبحاث هذا الكتاب وتجميع الوثائق والمخطوطات منذ نحو ثلاثة عقود، وذلك بالنظر إلى توفرها في مكتبات مختلفة تتوزع على مستوى العالم، والتي قام بزيارتها مثل باكستان في لاهور، إلى جانب مخطوطات أخرى تتواجد في إيران وتركيا ومصر، وعدد من الدول الغربية. وبين الدكتور راشد أن أثر هذا الكتاب على المجتمع يأتي ليسهم في فهم الثقافة والحضارة الإسلامية والعربية القديمة والحديثة، وذلك من خلال التعرف على البعد العلمي لهذه الحضارة، بدلاً من الانحسار في حقيقة واحدة مفادها أن هذه الحضارة كانت حضارة أدبية، ولاهوتية، وتفسيرية، ودينية، فالبعد العلمي الأساسي مهم جداً لنتمكن من فهم حضارتنا.

ولفت "لقد كان مشروعي العلمي يتمثل في تأسيس وإظهار البعد العلمي لهذه الحضارة، ليس بسبب تأريخيّ فقط، بل لأسباب اجتماعية أيضاً، فإن لم يكن العلم ذا قيمة اجتماعية في مجتمعنا فإنه يعتبر فاشلاً، وسيعتمد المجتمع على المجتمعات العلمية الأخرى كمنتجة ومستهلكة للعلم، وليكون العلم ذا قيمة اجتماعية، فإنه سيتدخل في تاريخ العلم والفلسلفة وسيسهم في بناء الفكر لدى المجتمع".

وأوضح: "عندما نقول للشاب العربي أن هذا العلم مستورد ولا نصيب للعرب فيه فإنه سيفقد ثقته بنفسه، ولكن عندما نقول له أن هذا العلم جزء من هذه الحضارة، فإننا في هذه الحالة سندفع الشباب لاكتساب العلم، وسنحفزهم على أخذه كقيمة اجتماعية وما دون ذلك فإننا لن نحقق هذا الفكر".

حاجة ملحة

وأكد الدكتور راشد إلى أن المجتمع العربي يحتاج بشكل كبير لتأسيس مؤسسات بحثية حقيقية، إذ لا يمكن الاستمرار في إرسال البعثات للخارج في مختلف الميادين لأن المجتمع سيتحول بذلك إلى مجتمع مضطرب وغير متماسك، نظراً لعدم وجود "التقاليد العلمية"، ولتكوين هذه "التقاليد" يتطلب إنشاء مدارس بحثية هامة تؤسس لمرحلة من البحوث العربية المتخصصة، والنشرات البحثية المتخصصة للفروع النظرية والأساسية، للمساهمة في تجديد ما تعلمه الشباب والباحثون، موضحاً أنه بدلاً من أن إنشاء مراكز بحثية تطبيقية تعمل على تنفيذ ما جاء في النظريات يتوجب علينا العمل على اكتشاف النظريات الجديدة من خلال البحث الأساسي، فإن لم يكن لدينا بحثاً أساسياً فإن البحوث التطبيقية لن تتطور.

رسالة للشباب العربي

ووجه الدكتور راشد رسالة للشباب بالعمل والاجتهاد والتضحية لبناء تكوينهم العلمي من خلال مواصلة البحث والدراسة بعد التخرج والحصول على أعلى الشهادات، إلى جانب أهمية الالتزام بأوطانهم والسعي والمطالبة المستمرة بإيجاد مؤسسات تسهم في بناء المؤسسات التي تسهم بالبحث الأساسي.